سورة النمل - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله} استئنافٌ مسوقٌ لبيان آثارِ البركةِ المذكورةِ. والضَّمير إمَّا للشَّامِ وأنا اللَّهُ جملة مفسِّرةٌ له وإمَّا راجعٌ إلى المتكلِّمِ وأنا خبرُه والله بيان له وقوله تعالى: {العزيز الحكيم} صفتانِ لله تعالى ممهدتانِ لما أريد إظهارُه على يدِه من المعجزاتِ أي أنا القويُّ القادرُ على ما لا تناله الأوهامُ من الأمورِ العظامِ التي من جُملتها أمرُ العصا واليدُ، والفاعلُ كلَّ ما أفعله بحكمةٍ بالغة وتدبير رصين.
{وَأَلْقِ} عطف على بُورك منتظم معه في سلك تفسير النِّداءِ أي نُودي أنْ بُورك وأن ألقِ {عَصَاكَ} حسبما نطقَ به قولُه تعالى: وأنْ ألقِ عصاك بتكريرِ حرفِ التَّفسير كما تقول كتبتُ إليه أنْ حُجَّ وأنِ اعتمرْ وإن شئتَ أن حجَّ واعتمرْ والفاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ} فصيحةٌ تفصحُ عن جملةٍ قد حُذفت ثقةً بظهورها ودلالةً على سرعةِ وقوع مضمونِها كما في قوله تعالى: {اخرج عَلَيْهِنَّ} كأنَّه قيل: فألقاهَا فانقلبت حيةً تسعى فأبصرَها فلَّما أبصرها متحركةً بسرعة واضطراب. وقوله تعالى: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي حيَّةٌ خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعولِ رأى مثل يهتزُّ كما أُشير إليه أو من ضميرِ تهتز على طريقة التَّداخلِ وقرئ: {جأن} على لغةِ من جدَّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ {ولى مُدْبِراً} من الخوفِ {وَلَمْ يُعَقّبْ} أي لم يرجعْ على عقبةِ، مِن عقّب المقاتلُ إذا كرَّ بعد الفرِّ وإنما اعتراهُ الرُّعب لظنِّه أن ذلك الأمرَ أُريد به كما يُنبىء عنه قوله تعالى: {خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} أي من غيري ثقةً بي أو مطلقاً لقوله تعالى: {إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون} فإنَّه يدلُّ على نفيِ الخوفِ عنهم مُطلقاً لكن لا في جميعِ الأوقاتِ بل حين يُوحى إليهم كوقتِ الخطابِ فإنَّهم حينئذٍ مستغرقُون في مطالعةِ شؤونِ الله عزَّ وجلَّ لا يخطرُ ببالِهم خوفٌ من أحدٍ أصلاً وأما في سائرِ الأحيانِ فهم أخوفُ النَّاسِ منه سبحانَه أو لا يكون لهم عندي سوءُ عاقبة ليخافُوا منه.


{إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} استثناءٌ منقطع استدرك به ما عسى يختلجُ في الخلد من نفي الخوفِ عن كلِّهم مع أنَّ منهم من فرطتْ منه صعيرةٌ مما يجوز صدورُه عن الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام فإنَّهم وإنْ صدرَ عنهم شيءٌ من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطلُه ويستحقُّون به من الله تعالى مغفرةً ورحمةً وقد قصد به التَّعريض بما وقعَ من موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من وكزهِ القبطيَّ والاستغفارِ، وتسميتُها ظُلماً لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي فغفرَ له» {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} لأنَّه كان مدرعةَ صوفٍ لا كم لها وقيل: الجيبُ القميصُ لأنَّه يُجاب أي يُقطع {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} أي آفة كبَرَصٍ ونحوه {فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ} في جُملتها أو معها على أنَّ التِّسعَ هي الفَلْقُ والطُّوفان والجرادُ والقُمَّلُ والضَّفادعُ والدَّمُ والطَّمسةُ والجَدبُ في بواديهم والنُّقصان في مزارعِهم ولمن عدَّ العصَا واليدَ من التسعِ أن يعدَّ الأخيرين واحداً ولا يعدُّ الفَلْق منها لأنه لم يُبعث به إلى فرعونَ أو اذهب في تسع آيات على أنه استئنافٌ بالإرسالِ فيتعلَّق به {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وعلى الأولين يتعلَّق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} تعليل للإرسالِ أي خارجين عن الحدود في الكفرِ والعُدوان.
{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا} وظهرتْ على يدِ مُوسى {مُبْصِرَةً} بينة اسم فاعلِ أطلق على المفعول إشعاراً بأنَّها لفرطِ وضوحِها وإنارتِها كأنَّها تُبصر نفسَها لو كانت ممَّا يبُصر أو ذاتُ تبصُّرٍ من حيث أنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن الهدايةِ أو مبصرة كلَّ مَن ينظر إليها ويتأمَّلُ فيها وقرئ: {مَبْصرة} أي مكاناً يكثُر فيه التَّبصرُ.
{قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضحٌ سحريته.
{وَجَحَدُواْ بِهَا} أي كذَّبوا بها {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} الواو للحالِ أي وقد استيقنتها أي علمتها أنفسُهم علماً يقينياً {ظُلْماً} أي للآياتِ كقوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} ولقد ظلُموا بها أيَّ ظلم حيث حطُّوها عن رتُبتها العاليةِ وسمَّوها سحراً وقيل ظُلماً لأنفسِهم وليس بذاك {وَعُلُوّاً} أي استكباراً عن الإيمان بها كقوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا} واتنصابهُما إما على العلَّةِ من جحدُوا بها أي على الحاليةِ من فاعله أي جحدُوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الإغراقِ على الوجهِ الهائل الذي هو عبرةٌ للعالمين، وإنَّما لم يذكر تنبيهاً على أنَّه عرضة لكلِّ ناظرٍ مشهور فيها بين كل بادٍ وحاضرٍ.


{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وسليمان عِلْماً} كلامٌ مستأنف مسوقٌ لتقرير ما سبقَ من أنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُلَقَّى القرآنَ من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ قصَّتهمَا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة القرآنِ الكريمِ لُقّيه عليه الصلاة والسلام من لدنه تعالى كقصَّةِ موسى عليه الصلاة والسلام، وتصديرُه بالقسمِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيق مضمونِه أي آتينا كل واحد منهما طائفةً من العلم لائقةً به من علمِ الشرَّائعِ والأحكامِ وغير ذلك مما يختصُّ بكلَ منهما كصنعةِ لبوسٍ ومنطقِ الطَّيرِ أو علماً سنياً عزيزاً {وَقَالاَ} أي قال كلُّ واحد منهما شُكراً لما أوتيه من العلمِ {الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا} بما آتانَا من العلمِ {على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} على أنَّ عبارةَ كلَ منهما فضَّلني إلا أنَّه عبَّر عنهما عند الحكايةِ بصيغة المتكلِّم مع الغير إيجازاً فإن حكايةَ الأقوالِ المتعدِّدة سواء كانتْ صادرةً عن المتكلِّم أو عن غيره بعبارةٍ جامعة للكُلِّ مما ليس بعزيزٍ، ومن الأوَّلِ قوله تعالى: {يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا} وقد مرَّ في سورة قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسنُ موقع العطفِ بالواو إذ المتبادر من العطفِ بالفاء ترتبُ حمدِ كلَ منهما على إيتاءِ ما أوتي كلٌّ منهما لا على إيتاءِ ما أوتي نفسه فقط وقيل: في العطفِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلمِ وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التَّحميد كأنَّه قيل: ولقد آتيناهُما علماً فعمِلا به وعلماه وعرفا حقِّ النِّعمةِ فيه، وقالا الحمدُ لله الآية فتأمَّل والكثيرُ المفضل عليه من لم يُؤت مثل علمهما وقيل من لم يُؤت علماً ويأباه تبيينُ الكثير بالمؤمنين فإنَّ خلوهم من العلم بِالمرةِ مما لا يمكن، وفي تخصيصِهما الأكثرَ بالذِّكر رمزٌ إلى أنَّ البعضَ مفضَّلون عليهما وفيه أوضحُ دليلٍ على فضل العلمِ وشرفِ أهلهِ حيثُ شكرا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ ولم يعبترا دونَه ما أُوتيا من الملكِ الذي لم يُؤته غيرهما وتحريضٌ للعلماءِ على أن يحمدُوا الله تعالى على ما آتاهُم من فضلِه ويتواضعوا ويعتقدُوا أنَّهم وإنْ فُضِّلوا على كثيرِ فقد فُضِّل عليهم كثيرٌ وفوقَ كلَّ ذي علمٍ عليم ونِعمّا قال أميرُ المؤمنينَ عمر رضي الله عنه: (كلُّ النَّاس أفقهُ من عمرَ).
{وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} أي النُّبوةَ والعلمَ أو الملكَ بأنْ قامَ مقامَهُ في ذلكَ دونَ سائرِ بنيهِ وكانُوا تسعةَ عشَر {وَقَالَ} تشهيراً لنعمةِ الله تعالى وتنويهاً بها ودعاءً للنَّاسِ إلى التصديقِ بذكرِ المُعجزاتِ الباهرةِ التي أُوتيها {ياأيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء} المنطقُ في المتعارَفِ كلُّ لفظٍ يُعبَّر بهِ عمَّا في الضميرِ مُفرداً كانَ أو مُركباً وقد يُطلق على كلِّ ما يُصوَّتُ بهِ من المفرد والمؤلَّفِ المفيدِ وغيرِ المفيدِ يقالُ نطقت الحمامةُ.
وكلُّ صنفٍ من أصنافِ الطيرِ يتفاهُم أصواتُه والذي عُلِّمه سليمانُ عليه السَّلامُ من منطقِ الطيرِ هو ما يُفهم بعضُه من بعضٍ من معانيهِ وأغراضِه. ويُحكَى أنَّه مرَّ على بُلبلٍ في شجرةٍ يُحرِّكُ رأسَهُ ويُميلُ ذنبَهُ فقالَ لأصحابِه أتدرونَ ما يقولُ، قالوُا الله ونبيُّه أعلمُ. قالَ يقولُ: إذا أكلتُ نصفُ تمرةٍ فعلى الدُّنيا العَفاءُ. وصاحتْ فاختةٌ فأَخبرَ أنَّها تقولُ: ليتَ الخلقَ لم يُخلقوا. وصاحَ طاووسٌ فقالَ يقول: كَمَا تَدينُ تُدانُ. وصاحَ هُدهدٌ فقالَ: يقول: استغفرُوا الله يا مُذنبينَ. وصاحَ طَيْطَوى، فقال: يقول: كُلُّ حيَ ميتٌ، وكلُّ جديدٍ بالٍ. وصاحَ خُطَّافٌ فقالَ: يقولُ: قَدِّمُوا خيراً تجدوه. وصاحَ قَمْريٌّ فأَخبرَ أنَّه يقولُ: سُبحانَ ربِّي الأَعْلَى. وصاحت رخمةٌ فقال تقول: سبحان ربي الأعلى ملءَ سمائِه وأرضِه. وقالَ الحِدَأةُ تقولُ: كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الله، والقطاةُ تقولُ: منْ سكتَ سلَمْ. والببغاءُ تقولُ: ويلٌ لمنْ الدٌّنيا همُّه، والديكُ يقولُ: اذكرُوا الله يا غافلينَ، والنَّسرُ يقولُ: يا ابنَ آدمَ عِشْ مَا شئتَ آخرُكَ الموتُ، والعُقابُ تقولُ: في البعدِ عن النَّاسِ أُنسٌ والضِّفدِعُ يقولُ: سبُحانَ رَبِّي القُدُّوسِ. وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه: عُلِّمنا وأُوتينَا بالنُّونِ التي يُقال لها نونُ الواحدِ المُطاع بيانَ حالِه وصفتِه من كونِه ملكاً مطاعاً لكنْ لا تجبُّراً وتكبُّراً بل تمهيداً لما أرادَ منهم من حُسنِ الطاعةِ والانقيادِ له في أوامرِه ونواهيِه حيثُ كان على عزيمةِ المسيرِ. وبقولِه: من كلِّ شيءٍ كثرةَ ما أُوتيه كما يُقال فلانٌ يقصده كلُّ أحدٍ ويعلمُ كلَّ شيءٍ ويُرادُ بهِ كثرةَ قُصَّادِه وغزارةَ علمهِ. ومثلُه قولُه تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: كلُّ ما يهمُّه من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ. وقال مقاتلٌ: يعني النُّبوةَ والملكَ وتسخيرَ الجنِّ والإنسِ والشياطينِ والريحِ.
{إِنَّ هَذَا} إشارةٌ إلى ما ذُكرَ من التعليمِ والإيتاء {لَهُوَ الفضل} والإحسانُ من الله تعالَى {المبين} الواضحُ الذي لا يخفى على أحدٍ أو إنَّ هَذا الفضلَ الذي أُوتيهِ لهو الفضلُ المبينُ على أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قاله على سيبل الشكرِ والمحمدةِ كما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ» أي أقولُ هذا القولَ شُكراً لا فخراً ولعلَّه عليه الصَّلاة والسَّلام رتَّب على كلامه ذلك دعوةَ النَّاسِ إلى الغزوِ فإنَّ إخبارَهم بإيتاءِ كلِّ شيءٍ من الأشياءِ التي من جُملتها آلاتُ الحربِ وأسبابُ الغزوِ ممَّا ينبىءُ عن ذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8